[center]
لأن الإسلام كثيرا ما اتهم بالتعصب لجنس على آخر لذا سنحاول دحض ذلك من خلال تسليط الضوء على بعض اليهود الذين اسلموا فصاروا من جملة الصحابة رضي الله عنهم، لنؤكد ان الإسلام لا يتعصب لجنس على آخر، فهاهم اليهود الذين اسلموا، كان لهم ما للصحابة من التوقير والفضل والمنزلة الرفيعة في الأمة، بل ان امرأة من نساء اليهود صارت من أمهات المؤمنين لما اسلمت وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها.
ويذكر لمؤرخي المسلمين وعلمائهم انهم لم يهملوا ذكر من أسلم من اليهود وغيرهم من الملل الأخرى، ممن كان يكن العداوة للإسلام وأهله، بل اعتنوا بذكرهم كل العناية، فترجموا لهم في كتبهم ونقلوا مروياتهم، وماورد عنهم ومنهم من أقوال ومواقف وأعمال، ولا غرابة في ذلك فقد علمهم الإسلام انه لا فضل لعربي على اعجمي، إلا بالتقوى {وإن اكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).
وقد ثبت ان لهؤلاء من اليهود وأهل الكتاب فضلا وسبقا ليس لغيرهم، من جهة أنهم آمنوا بنبيهم وشريعته ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، ففي «الصحيح» عن أبي موسى رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب من بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله اجران، وعبد «مملوك» ادى حق الله وحق مواليه فله اجران، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم ادّبها فأحسن تأديبها ثم اعتقها وتزوجها فله اجران» أخرجه البخاري ومسلم.
وقال القرطبي يرحمه الله في تفسير قوله تعالى: {الذين ءاتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون (52) وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا انا كنا من قبله مسلمين (53) أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا}، القصص: 52-54.
قال علماؤنا: لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم اجرين، فالكتابي كان مخاطبا من جهة نبيه، ثم انه خوطب من جهة نبينا فاجابه واتبعه فله اجر الملتين».
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله: «فهذا له الأجر مرتان، الأجر الأول ايمانه برسوله، والثاني: إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم، وليعلم ان اليهود والنصاري إذا بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به حبطت أعمالهم، حتى أعمالهم التي يدينون بها في ملتهم، حابطة غير مقبولة، لقول الله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)} ال عمران.
ومن خلال سلسلة «يهود اسلموا في حياة المصطفى» سوف نسلط الضوء على تاريخ اليهود في المدينة النبوية وسبب مجيء اليهود لأرض الحجاز، وكذلك سنسرد حكايات من اسلموا من اليهود في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بالتعاون مع مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية.
فإلى الحلقة الثانية
منع اليهود من الاشتراك في الحروب مع المسلمين
كانت معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة بعد قدومه صلى الله عليه وسلم إليهما تتضمن اشتراك اليهود في الدفاع عن المدينة مع المسلمين، ففي نص وثيقة المعاهدة: «وأن بينهم النصر على من دهم يثرب».
كما ان المعاهدة منعت اليهود من إجارة قريش أو نصرها، ففي نص وثيقة المعاهدة: «وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها».
وقد اختلف في اليهود: هل شاركوا في القتال والغزو الفعلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه وغزواته، على قولين، فذهب البعض إلى ان اليهود شاركوا في بعض القتال مع المسلمين، وكان يضرب لهم بسهم من الغنائم، وذهب الآخرون إلى ان النبي صلى الله عليه وسلم منع اليهود من اي اشتراك مع المسلمين في حروبهم، وهذا هو الأرجح من جهة الدليل.
أدلة المنع
1 – أخرج ابو عبدالله الحاكم عن أبي حميد الساعدي، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خلف ثنية الوادع إذا كتيبة، قال: من هؤلاء؟ قالوا: بنو قينقاع، وهم رهط عبدالله بن سلام، قال: «وأسلموا؟»، قالوا: لا بل هم على دينهم، قال: «قولوا لهم فيرجعوا فانا لا نستعين بالمشركين».
وقد رواه الحاكم كشاهد لحديث آخر رواه، وفيه «فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين»، وقال الحاكم عنه: صحيح الاسناد ولم يخرجاه.
وقد روي الحديث نفسه على أنه في غزوة أحد في حين ان رواية الحاكم تذكر انه في إحدى غزواته دون تحديد للغزاة.
ويشكل على تحديد الغزوة بأنها غزوة أحد: أن بني قينقاع قد تم إجلاؤهم قبل أحد من المدينة بأكملهم.
وقد أخرجه البيهقي عن أبي حميد الساعدي من طريق الحاكم أيضا، وروى الواقدي وابن سعد انهم كانوا حلفاء عبدالله بن ابي سلول وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تستنصروا بأهل الشرك على أهل الشرك». والحديث فيه: سعد بن المنذر.
2 – وذكر ابن اسحاق والإمام سحنون من طريق الزهري ان الأنصار قالت يوم احد: ألا نستعين بحلفائنا من اليهود؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لنا فيهم».
ويؤيد القول بذلك: ان بنود المعاهدة مع اليهود فيها اشتراك اليهود في نفقات الحرب دفاعا عن المدينة إذا دهمها عدو، «وأن بينهم النصر على من دهم يثرب»، لا على القتال خارج المدينة.
وما ورد في رغبة اليهود وخروجهم للقتال مع المسلمين إنما يرجع إلى المحالفات السابقة التي كانت بين الأوس والخزرج واليهود قبل مجيء الإسلام، «فلعل اليهود ارادوا التأكيد على تلك الأحلاف» وتقوية ارتباطهم بحلفائهم القدامى للإفادة من هذه الصلة في الوقيعة بين المسلمين وتخذيلهم وغلغلة النفاق بين صفوفهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قطع الطريق عليهم برفض معونتهم ما داموا على الكفر. إن استمرار اثر المحالفات القديمة بين الأوس والخزرج واليهود يتضح من قول الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: «ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟» كما يتضح من شفاعة عبدالله بن أبي بن سلول كبير المنافقين في بني قينقاع حلفاء قومه الخزرج، ومن محاولة بعض الأوس تخليص حلفائهم يهود بني قريظة من القتل بعد نزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فحكم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فحكم بقتلهم، وبذلك تبرأ من حلفهم كما تبرأ من قبله عبادة بن الصامت «وهو من بني عوف من الخزرج» من بني قينقاع حين حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما أحاديث اشتراك اليهود الفعلي مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حروبه فهي ضعيفة، وهي التي استند إليها من قال بأن اليهود شاركوا المسلمين في حروبهم وكان يسهم لهم في الغنائم معهم:
ذكر ابوعبيد بسنده عن الزهري قال: «كان اليهود يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسهم لهم»، وهو حديث مرسل لا يحتج به.
وعند الترمذي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه». قال الترمذي: حديث حسن غريب، والحديث عن طريق الزهري مرسلا فلا يحتج به، وعند الزيلعي في «نصب الراية»: «ان النبي كان يغزو باليهود» وهو من مراسيل الزهري، فلا يحتج به.
وفي «سنن البيهقي» حديث «ان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غزا بناس من اليهود».
قال البيهقي: هذا منقطع وهو من مراسيل الزهري أيضا.
وأورد الواقدي ـ وهو متروك ـ في كتاب المغازي، وعنه البيهقي في سننه، وقال: هذا منقطع واسناده ضعيف، والزيلعي «في نصب الراية» حديث:«خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعشرة من يهود المدينة غزا بهم خيبر».
واخرج الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» بسنده حديث: «ان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاتل معه قوم من اليهود في بعض حروبه فاسهم لهم مع المسلمين».
وفيه: عن يزيد بن يزيد بن جابر عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، ويزيد هذا لم يلق ابا هريرة، فقد ولد يزيد في حدود سنة 77 هـ في حين توفى ابو هريرة سنة 57 هـ، فالاسناد ضعيف سقط منه بعض الرواة.
وفي «سنن البيهقي» حديث: «استعان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيهود قينقاع».
وفيه الحسن بن عمارة، ذكر البيهقي انه متروك، ورغم ان الحسن بن عمارة غير متفق على تضعيفه لكن اكثر جهابذة المحدثين يضعفونه حتى حكى السهيلي اجماعهم على ذلك.
مواقف اليهود العدائية المتكررة واخراجهم من المدينة
لم يلتزم اليهود بالمعاهدة التي ابرمها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ معهم بل سرعان ما نقضوها ولم يكتفوا بعدم الوفاء بالتزاماتهم التي حددتها بل وقفوا مواقف عدائية ايضا فكان ذلك سبب اجلائهم عن المدينة.
اجلاء بني قينقاع عن المدينة
وقع ذلك بعد غزوة بدر الكبرى، اذ أظهر يهود نبي قينقاع الغضب والغيظ عقب انتصار المسلمين على مشركي مكة يوم بدر، وقد بلغ بهم الامر ان جاهروا بالعداء للمسلمين ما يعني الاخلال بالأمن والسلام داخل المدينة، ما ينافي الغرض من المعاهدة التي عقدوها مع المسلمين.
ومما اظهروه من العداء قولهم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا محمد لا يغرك من نفسك انك قتلت نفرا في قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال انك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وانك لم تلق مثلنا.
وفي كتب السيرة ايضا ان امرأة مسلمة قصدت سوق بني قينقاع فعقد احد اليهود طرف ثوبها فلما قامت انكشفت عورتها فصاحت، فقام احد المسلمين فقتل ذلك اليهودي، فتواثب باقي اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليه، فوقع الشر بين المسلمين وبين بني قينقاع.
فخرج اليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجيشه فحصارهم حتى اشتد عليهم الحصار فنزلوا على حكمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانتهى الامر باجلائهم عن المدينة، فلحقوا باذرعات، وكان عدد مقاتليهم اربعمائة حاسر «بدون درع» وثلاثمائة دارع فلبثوا في اذرعات حتى هلك اكثرهم.
اجلاء بني النضير عن المدينة
ذهب اكثر اهل السيرة والمغازي ان ذلك وقع بعد غزوة احد، فقد اظهر بنو النضير العداوة للمسلمين من بعد غزوة بدر الكبرى، حيث قام كعب بن الاشرف من زعمائهم، وقد غاظه انتصار المسلمين ببدر فهجا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسعى لتحريض قريش عليه، وزار مكة يبكي قتلاها ببدر، ويدعوها إلى الاخذ بالثأر، ولما عاد للمدينة شبب بنساء المسلمين فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتله، فاحتلا عليه محمد بن مسلمة الانصاري بخدعة انتهت بقتله جزاء ما اقترفه من نكث للعهد واستعداء لقريش على المسلمين «ولكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يؤاخذ بني النضير بجريرة كعب ابن الاشرف واكتفى بقتله جزاء غدره» وقد اشتكت اليهود مقتله فبين لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما صدر منه من عداء وهجاء، وجدد المعاهدة معهم، ولكنهم مضوا يكيدون للاسلام رغم تجديدهم المعاهدة، فحاولوا قتل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ غدرا، فنجاه الله تعالى من كيدهم، فأنذرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشرة ايام فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فاعلنوا تمردهم فحاصرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى نزلوا على الجلاء، على ان لهم ما اقلت الابل الا السلاح فخربوا بيوتهم بايديهم، وحملوا ما امكنهم من المتاع والاموال، وتركوا سلاحهم للمسلمين، وتوجه معظمهم إلى الشام، وذهب زعماؤهم إلى خيبر فنزلوا فيها.
وقد أدى اجلاء بني النضير إلى كسر شوكة اليهود في المدينة، وجددت بنو قريظة المعاهدة مع المسلمين، واظهرت رغبتها في المحافظة على العهد حتى كانت غزوة الاحزاب.
كما انتفع المسلمون بأراضي بني النضير«بإقطاعها للمهاجرين الذين كانوا يعتمدون في سكانهم على أراضي وبيوت الانصار».
غزوة الخندق وحصار الاحزاب للمسلمين في المدينة
وقعت غزوة الخندق «الاحزاب» سنة 5 هـ، وفي هذه الغزوة سعت قريش الى اتخاذ حلفاء لها يشاركونها في قتال المسلمين ومهد لهم هذ الامر يهود بني النضير، فعندما الا الرسول صلى الله عليه وسلم يهدو بن النضير من المدينة بعد غزوة احد، واقام عدد من زعمائهم في خيبر، بدأوا في الاتصال بقريش والقبائل الاخرى لجمعهم على قتال المسلمين وغزو المدينة فخرج وفد منهم: سلام بن ابي الحقيق النضري وحيي بن اخطب النضري الى مكة، لحث قريش على حرب المسلمين، ثم توجهوا الى قبيلة غطفان في نجد لنفس الغرض، فاستطاعت قريش ان تجمع العديد من القبائل ومعظمها فروع من غطفان لقتال المسلمين.
فلما علم المسلمون بخبر تجمع الاحزاب لغزوهم، استشار الرسول صلى الله عليه وسلم اصحابه، فاشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر خندق في المنطقة الشمالية من المدينة، ويربط بين طرفي حرة واقم وحرة الوبرة، وهي المنطقة الوحيدة المكشوفة امام الغزاة، اما الجهات الاخرى، فكانت كالحصن تتشابك فيها الابنية واشجار النخيل، وتحيطها الحرات التي يصعب على الإبل والمشاة السير فيها، فيكون الخندق بذلك حاجزا يمنع الالتحام المباشر بين الغزاة بجموعهم الكبيرة وبين المسلمين، ويمنع اقتحام المدينة، ويجعل المسلمين في موقع دفاعي جيد.
وشرع المسلمون بحفر الخندق وكان يمتد من أم الشيخين طرف بني حارثة شرقا حتى المذاد غربا، وكان طوله خمسة آلاف ذراع، وعرضه تسعة آلاف أذرع، وعمقه من سبعة أذرع الى عشرة وكان على كل عشرة من المسلمين حفر اربعين ذراعا وقد تولى المهاجرون الحفر من ناحية حصن راتج في الشرق الى حصن ذباب، والانصار من حصن باب الى جبل عبيد في الغرب، وقد تم الحفر بسرعة رغم الجو البارد وقلة الطعام، وشاركهم في الحفر الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، مما اثر على الروح المعنوية للمسلمين فتمكنوا من انجاز الخندق في ستة أيام فقط، وقبل وصول جموع الأحزاب إلى مشارف المدينة، «فلما انجز الخندق وضع الرسول صلى الله عليه وسلم النساء والأطفال في حصن فارع، وهو أقوى حصون المسلمين وهو لبني حارثة»، ورتب النبي صلى الله عليه وسلم جيشه، فاسند ظهرهم إلى جبل سلع داخل المدينة، ووجوههم إلى الخندق.
كان تفوق المشركين العددي كبيرا، فقد بلغوا عشرة الاف مقاتل، لقريش واحابيشها أربعة آلاف، ومعهم ثلاثمائة فرس وألف وخمسمائة بعير، ثم التحق بهم بنو سليم، وهم سبعمائة، ومن فزارة ألف رجل، ومن اشجع أربعمائة رجل، ومن بني مرة أربعمائة، وبقية العشرة آلاف مقاتل من بين اسد وبقية غطفان.
أما جيش المسلمين فكان ثلاثة آلاف مقاتل.
وقد اشتد الخطب على المسلمين عندما بلغهم ان حلفاءهم -يهود بني قريظة- قد نكثوا العهد وغدروا بهم، وكانت ديار بني قريظة في العوالي، في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزوز فكان موقعهم يمكنهم من ايقاع ضربة بالمسلمين من الخلف.
وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم من يستطلع موقف بني قريظة فوجدهم قد نقضوا عهدهم واظهروا العداوة للمسلمين بعد ان أقنع حيي بن اخطب النضري كعب بن اسد القرظي بنقض العهد، حيث بين له قوة الاحزاب وقدرتها على القضاء على المسلمين وتعهد بدخول الحصن معه ان رجع الاحزب عن المدينة فأعلنت قريظة نقض العهد وشاع الخبر بين المسلمين فخافوا على نسائهم واطفالهم من بني قريظة.
وقد وصف القرآن الكريم البلاء الذي اصاب المسلمين في الآية: «إذ جاؤكم من فوقكم ونم زسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زالزالا شديدا» «الاحزاب: 10-11» وقد نظم المسلمون دوريات لحراسة المدينة ويظهرون التكبير لاشعار بني قريظة بيقظتهم ووجودهم خوفا منهم على النساء والاطفال في الحصون.
وقد فوجئت جمع الاحزاب بالخندق ولم يستطيعوا اقتحامه فحاصروا المسلمين واشتد حصارهم ولم يكن بينهم قتال الا بالرمي بالنبال ورغم طول مدة الحصار فقد استشهد من المسلمين ثمانية.
وقتل من المشركين اربعة فكانت غزوة الخندق اقل الغزوات قتلى رغم كثرة اعداد المشركين فيها إذ لم يقع التحام مباشر بين الفريقين.
وكان طول الحصار سببا في اضعاف معنوية الاحزاب خاصة ان اهدافهم لم تكن واحدة فقريش تريد القضاء على المسلمين لتحرير طرق تجارتها وللانتصار لوثنيتها والاعراب يريدون نصرا سريعا لنهب المدينة ويهود مترددة بحيث لم تدخل القتال رغم نقضها للعهد خوفا من ترك الاحزاب للحصار فتقف عنذئد وحدها وجها لوجه امام المسلمين لذا طلب اليهود من الاحزاب تسليمهم رهائن منهم قبل الاشتراك في القتال معهم ثم نصر الله تعالى المسلمين بريح «الصبا» فهبت على جموع الاحزاب العواصف الشديدة الباردة فاقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم وأطفأت نيرانهم ودفنت رحالهم فرحلوا وانفك الحصار عن المدينة فتنفس المسلمون الصعداء، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا» «الاحزاب: 9» وقال تعالى: «ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا» «الاحزاب: 25».
قتل رجال بني قريظة وسبي النساء والذراري
اشتعل الحقد والغيظ في نفوس يهود بني النضير بعد اجلائهم عن المدينة، فحرض زعماؤهم المشركين من قريش والاحزاب على غزو المدينة، فكانت غزوة الخندق في سنة 5 هـ، واشتد الخطب بالمسلمين كما ذكرنا، خاصة مع اشتداد حصار الاحزاب للمدينة فقد كان في حصار المدينة عشرة آلاف مقاتل من قريش والاحزاب.
وخلال هذا الحصار الشديد نقضت قريظة عهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وجهرت بذلك، بتحريض من حيي بن أخطب النضري، وشعر المسلمون بالخطر الكبير الذي يتهددهم نتيجة غدر بني قريظة وتواطئهم مع الاحزاب بما يعرض المسلمين لخطر مداهمة الاحزاب للمدينة واقتحامها بمعاونة هؤلاء اليهود من جهتهم.
فلما هزم الله تعالى بالريح جموع الاحزاب، فتراجعوا وتشتت شملهم، امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقتال بني قريظة، فتوجه اليهم صلى الله عليه وسلم مع اصحابه، فحاصروهم ، وشددوا عليهم الحصار حتى استسلموا، وقبلوا النزول على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، لانهم كانوا حلفاء قومه من الأوس فحكم فيهم سعد رضي الله عنه بقتل مقاتلتهم وسبي النساء والذرية، وان تقسم اموالهم، فنفذ القتل فيهم، وقسمت اموالهم وسبيت نساؤهم وذراريهم.
وكان جزاء بني قريظة من جنس عملهم، حين عرضوا بخيانتهم ارواح المسلمين للقتال، واموالهم للنهب، ونساءهم وذراريهم للسبي، فكان ان عوقبوا بذلك جزاء وفاقا.
زيد بن سعنة
ويقال زيد بن سعية، والنون اكثر في هذا.
كان من احبار اليهود اسلم وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة.
كان من اكثر اليهود مالا وحسن إسلامه توفي في غزوة تبوك مقبلا الى المدينة روى عنه عبدالله بن سلام وكان عبدالله بن سلام يقول: قال زيد بن سعنة، «ما من علامات النبوة شيء الا وقد عرفته في وجه محمد صلى الله عليه وسلم».
وروى ابن الاثير عن ابن سلام عن زيد بن سعنة قال : «لم يبق من علامات النبوة شيء الا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت اليه الا اثنين لم أخبرهما منه، يسبق حلمه غضبه، ولا يزيده شدة الجهل عليه الا حلما فكنت اتلطف له لان اخالطه واعرف حلمه وجهله، قال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الايام من الحجرات ومعه علي بن أبي طالب، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي فقال: يارسول الله ان قرية بني فلان قد اسلموا وقد اصابتهم سنة وشدة، فان رأيت ان ترسل اليهم بشيء تعينهم فعلت، فلم يكن معه شيء، قال زيد: فدنوت منه فقلت: يا محمد، ان رأيت ان تبيعني تمرا معلوما من حائط بني فلان الى اجل كذا وكذا فقال: لا يا أخا يهود، ولكن ابيعك تمرا معلوما الى اجل كذا وكذا، ولا أسمى حائط بني فلان فقلت: نعم فبايعني وأعطيته ثمانين دينارا، فأعطاه الرجل قال زيد: فلما كان قبل محل الاجل بيومين او ثلاثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الانصار، ومعه ابو بكر، وعمر، وعثمان، ونفر من اصحابه، فلما صلى على الجنازة اتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت اليه بوجه غليظ ثم قلت، الا تقضي يا محمد حقي؟ فو الله- ما علمتكم يابني عبدالمطلب- لسيئي القضاء مطل.
قال: فنطرت الى عمر وعيناه تدوران في وجهه، ثم قال: اي عدو الله اتقول لرسول الله ما اسمع فوالذي بعثه بالحق لو لا ما احاذر فوته لضربت بسيفي رأسك ورسول الله ينظر الى عمر في سكون وتبسم ثم قال: يا عمر انا وهو الى غير هذا منك احوج ان تأمره بحسن الاقتضاء، وتأمرني بحسن القضاء، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعا مكان ما روعته قال زيد: فذهب بي عمر فقضاني وزادني فأسلمت.
وقد ذكره البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن محمد بن محمد بن حمزة ابن يوسف بن عبدالله بن سلام عن ابيه عن جده وفيه زيادة لعبدالله بن سلام قال فيها قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعا من تمر.
فقلت ما هذه الزيادة يا عمر فقال امرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ازيدك مكان ما رعتك فقلت: اتعرفني يا عمر قال: لا ، فمن انت؟ قلت انا زيد بن سعنة، قال الحبر قلت: الحبر قال : فما دعاك الى ان فعلت برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت وقلت له ما قلت: قلت: يا عمر انه لم يكن من علامات النبوة شيء الا وقد عرفته في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت اليه الا اثنتين لم اخبرهما منه، يسبق حلمه جهله ولا تزيده شدة الجهل عليه الا حلما، فقد خبرتهما فأشهدك ياعمر اني قد رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، واشهدك ان شطر مالي فإني أكثرهم مالا صدقة على أمة محمد.
فرجع عمر وزيد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيد: اشهد ان لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وآمن به وصدقه وتابعه وشهد معه مشاهد كثيرة، وتوفى في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر.
ميمون بن يامين
ميمون بن يامين وكان رأس اليهود بالمدينة فأسلم.
روى سعيد بن جبير قال: جاء ميمون بن يامين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان رأس اليهود بالمدينة فأسلم وقال: يارسول الله اجعل بينك وبينهم حكما فإنهم سيرضون بي، فبعث اليهم رسول الله فحضروا وادخله بيتا وقال: اجعلوا بيني وبينكم حكما فقالوا: رضينا بميمون بن يامين فأخرجه اليهم فقال لهم: أشهد أنه على الحق وأنه رسول الله، فأبوا أن يصدقوا فأنزل الله عز وجل«قل أرأيتم إن كان من عندالله وكفرتم به وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله»«الاحقاف:10».
وروى أبو سعيد في«شرف المصطفى» من طريق سعيد بن جبير: جاء ميمون بن يامين -وكان رأس اليهود- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله ابعث اليهم فاجعلني حكما فإنهم يرجعون إليّ فأدخله داخلا ثم ارسل اليهم فأتوه فخاطبوه، فقالوا: اختاروا رجلا يكون حكما بيني وبينكم قالوا: قد رضينا ميمون بن يامين، فقال: اخرج اليهم فقال: أشهد أنه رسول الله فأبوا أن يصدقوه.
سلام ابن أخت عبدالله بن سلام وسلمة بن سلام
سلام ابن أخت عبدالله بن سلام وسلمة بن سلام، هو ابن اخي عبدالله بن سلام، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية «يأيها الذين آمنوا ءامنوا بالله ورسوله» النساء: 136 في عبدالله بن سلام، وأسد وأسيد ابني كعب، وثعلبة بن قيس، وسلام ابن أخت عبدالله بن سلام، وسلمة بن أخيه، ويامن بن يامن، وهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب.
عن ابن الاثير أخرجه ابن منده، وابو نعيم كذا سلمة بن سلام بن أخي عبدالله بن سلام، ولا شك قد سقط عليهما اسم أبيه، وإلا فيكون أخا عبدالله، والصحيح أنه أخوه لا ابن أخيه، والله أعلم.
ثعلبة وأسيد وأسد القرظي
لما غدر بنو قريظة بالمسلمين في غزوة الخندق وانضموا للمشركين وانهت الغزوة برحيل المشركين عن المدينة حاصر المسلمون بني قريظة حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه قبل موته فحكم بقتل الرجال وسبي النساء والذراري وتقسيم اموالهم وفي ليلة نزول بني قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الله تعالى ثلاثة من اليهود فأسلموا ولم يكونوا من بني قريظة انما هم من بني هدل وهم: ثعلبة بن سعية واسيد بن سعية واسد بن عبيد.
قال ابن الاثير في ثعلبة بن سعية: وقيل ابن يامين.
قال ابن عبدالبر في«الاستيعاب»: أسيد بن سعية ويقال: أسد- بالفتح- بن سعية بن عريض القرظي قال ابراهيم بن سعد عن ابن اسحاق: أسد- بالضم- وقال يونس بن بكير: أسيد- بالفتح- وقال الدراقطني: الفتح الصواب.
وقد قيل سعية وسعنة وسعية بالياء أكثر. نزل هو وأخوه ثعلبة بن سعية في الليلة التي في صبيحتها نزل بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ ونزل معهما اسيد بن عبيد القرظي واحرزوا دماءهم واموالهم، اهـ.
وقال ابن عبدالبر في موضح آخر من«الاستيعاب»: أسيد بن سعية القرظي من بني قريظة اسلم فأحرز ماله وحسن اسلامه وساق بسنده عن ابن عباس قال: لما اسلم عبدالله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسيد بن عبيد ومن اسلم من يهود فأمنوا وصدقوا ورغبوا في الاسلام قالت احبار يهود ما أتى محمدا إلا شرارنا فأنزل الله عز وجل:«ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة» إلى قوله تعالى:«من الصالحين» «آل عمران:113- 114» هكذا رواه يونس بن بكير عن اسحاق وأسيد بفتح الهمزة وكسر السين وكذلك قال الواقدي: أسيد بن سعية بالفتح اسيد بن سعية بالفتح وكسر السين وفي رواية ابراهيم بن سعد عن ابن اسحاق: أسيد بالفتح والضم عندهم اصح والله اعلم.
وذكر الطبري عن ابن حميد عن سلمة عن ابن اسحاق قال ثم ان ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسيد بن عبيد وهم من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم اسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري:«توفي أسيد بن سعية وثعلبة بن سعية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم» روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما اسلم عبدالله بن سلام وثعلبة بن أسيد وأسد بن عبيد ومن اسلم من يهود فآمنوا وصدقوا ورغبوا فيه قال احبار يهود وأهل الكفر: ما آمن بمحمد ولا اتبعه إلا شرارنا فأنزل الله تعالى:«ليسوا سواء من اهل الكتاب أمة قائمة» «آل عمران:113».
قال ابن الاثير: ومن يسمعه يظن انهما قد اسلما هما وعبدالله بن سلام في وقت واحد وليس كذلك.
فأما ابن سلام فأسلم قديما وأسلم الباقون يوم قريظة كما مر.
روى البيهقي في«دلائل النبوة» بسنده عن شيخ من بني قريظة قال لعاصم ابن عمر بن قتادة: هل تدري عما كان اسلام اسيد وثعلبة ابني سعية واسد بن عبيد نفر من هدل لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير كانوا فوق ذلك؟ قلت: لا قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيبان فأقام عندنا والله ما رأينا رجلا قط يصلى الخمس خيرا منه فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين فكنا اذا قحطنا وقل علينا المطر نقول: يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا فيقول: ولا والله حتى تقدموا امام مخرجكم صدقة نقول: كم؟ فيقول: صاعا من تمر أو مدين من شعير فنخرجه ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه فيستسقي فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمر الشعاب وقد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة فحضرته الوفاة واجتمعنا اليه فقال: يامعشر يهود ما ترونه اخرجني من ارض الخمر والخمير إلى ارض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت اعلم قال: انما اخرجني توقع خروج نبي قد أظل زمانه ؟فجئت البلاد ومهاجره فأتبعه فلا تسبقن إليه إذا خرج يامعشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن يخالفه فلا يمنعكم ذلك منه ثم مات فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة قال اولئك الثلاثة الفتية وكانوا شبانا احداثا: يامعشر يهود والله إنه للذي ذكر لكم ابن الهيبان فقالوا: ما هو به قالوا بلى والله انه لصفته ثم نزلوا فأسلموا وخلوا اموالهم واولادهم واهاليهم، قال ابن اسحاق: كانت اموالهم في الحصن مع المشركين فلما فتح رد ذلك عليهم.
لأن الإسلام كثيرا ما اتهم بالتعصب لجنس على آخر لذا سنحاول دحض ذلك من خلال تسليط الضوء على بعض اليهود الذين اسلموا فصاروا من جملة الصحابة رضي الله عنهم، لنؤكد ان الإسلام لا يتعصب لجنس على آخر، فهاهم اليهود الذين اسلموا، كان لهم ما للصحابة من التوقير والفضل والمنزلة الرفيعة في الأمة، بل ان امرأة من نساء اليهود صارت من أمهات المؤمنين لما اسلمت وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها.
ويذكر لمؤرخي المسلمين وعلمائهم انهم لم يهملوا ذكر من أسلم من اليهود وغيرهم من الملل الأخرى، ممن كان يكن العداوة للإسلام وأهله، بل اعتنوا بذكرهم كل العناية، فترجموا لهم في كتبهم ونقلوا مروياتهم، وماورد عنهم ومنهم من أقوال ومواقف وأعمال، ولا غرابة في ذلك فقد علمهم الإسلام انه لا فضل لعربي على اعجمي، إلا بالتقوى {وإن اكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).
وقد ثبت ان لهؤلاء من اليهود وأهل الكتاب فضلا وسبقا ليس لغيرهم، من جهة أنهم آمنوا بنبيهم وشريعته ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، ففي «الصحيح» عن أبي موسى رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب من بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله اجران، وعبد «مملوك» ادى حق الله وحق مواليه فله اجران، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم ادّبها فأحسن تأديبها ثم اعتقها وتزوجها فله اجران» أخرجه البخاري ومسلم.
وقال القرطبي يرحمه الله في تفسير قوله تعالى: {الذين ءاتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون (52) وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا انا كنا من قبله مسلمين (53) أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا}، القصص: 52-54.
قال علماؤنا: لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم اجرين، فالكتابي كان مخاطبا من جهة نبيه، ثم انه خوطب من جهة نبينا فاجابه واتبعه فله اجر الملتين».
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله: «فهذا له الأجر مرتان، الأجر الأول ايمانه برسوله، والثاني: إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم، وليعلم ان اليهود والنصاري إذا بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به حبطت أعمالهم، حتى أعمالهم التي يدينون بها في ملتهم، حابطة غير مقبولة، لقول الله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)} ال عمران.
ومن خلال سلسلة «يهود اسلموا في حياة المصطفى» سوف نسلط الضوء على تاريخ اليهود في المدينة النبوية وسبب مجيء اليهود لأرض الحجاز، وكذلك سنسرد حكايات من اسلموا من اليهود في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بالتعاون مع مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية.
فإلى الحلقة الثانية
منع اليهود من الاشتراك في الحروب مع المسلمين
كانت معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة بعد قدومه صلى الله عليه وسلم إليهما تتضمن اشتراك اليهود في الدفاع عن المدينة مع المسلمين، ففي نص وثيقة المعاهدة: «وأن بينهم النصر على من دهم يثرب».
كما ان المعاهدة منعت اليهود من إجارة قريش أو نصرها، ففي نص وثيقة المعاهدة: «وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها».
وقد اختلف في اليهود: هل شاركوا في القتال والغزو الفعلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه وغزواته، على قولين، فذهب البعض إلى ان اليهود شاركوا في بعض القتال مع المسلمين، وكان يضرب لهم بسهم من الغنائم، وذهب الآخرون إلى ان النبي صلى الله عليه وسلم منع اليهود من اي اشتراك مع المسلمين في حروبهم، وهذا هو الأرجح من جهة الدليل.
أدلة المنع
1 – أخرج ابو عبدالله الحاكم عن أبي حميد الساعدي، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خلف ثنية الوادع إذا كتيبة، قال: من هؤلاء؟ قالوا: بنو قينقاع، وهم رهط عبدالله بن سلام، قال: «وأسلموا؟»، قالوا: لا بل هم على دينهم، قال: «قولوا لهم فيرجعوا فانا لا نستعين بالمشركين».
وقد رواه الحاكم كشاهد لحديث آخر رواه، وفيه «فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين»، وقال الحاكم عنه: صحيح الاسناد ولم يخرجاه.
وقد روي الحديث نفسه على أنه في غزوة أحد في حين ان رواية الحاكم تذكر انه في إحدى غزواته دون تحديد للغزاة.
ويشكل على تحديد الغزوة بأنها غزوة أحد: أن بني قينقاع قد تم إجلاؤهم قبل أحد من المدينة بأكملهم.
وقد أخرجه البيهقي عن أبي حميد الساعدي من طريق الحاكم أيضا، وروى الواقدي وابن سعد انهم كانوا حلفاء عبدالله بن ابي سلول وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تستنصروا بأهل الشرك على أهل الشرك». والحديث فيه: سعد بن المنذر.
2 – وذكر ابن اسحاق والإمام سحنون من طريق الزهري ان الأنصار قالت يوم احد: ألا نستعين بحلفائنا من اليهود؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لنا فيهم».
ويؤيد القول بذلك: ان بنود المعاهدة مع اليهود فيها اشتراك اليهود في نفقات الحرب دفاعا عن المدينة إذا دهمها عدو، «وأن بينهم النصر على من دهم يثرب»، لا على القتال خارج المدينة.
وما ورد في رغبة اليهود وخروجهم للقتال مع المسلمين إنما يرجع إلى المحالفات السابقة التي كانت بين الأوس والخزرج واليهود قبل مجيء الإسلام، «فلعل اليهود ارادوا التأكيد على تلك الأحلاف» وتقوية ارتباطهم بحلفائهم القدامى للإفادة من هذه الصلة في الوقيعة بين المسلمين وتخذيلهم وغلغلة النفاق بين صفوفهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قطع الطريق عليهم برفض معونتهم ما داموا على الكفر. إن استمرار اثر المحالفات القديمة بين الأوس والخزرج واليهود يتضح من قول الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: «ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟» كما يتضح من شفاعة عبدالله بن أبي بن سلول كبير المنافقين في بني قينقاع حلفاء قومه الخزرج، ومن محاولة بعض الأوس تخليص حلفائهم يهود بني قريظة من القتل بعد نزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فحكم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فحكم بقتلهم، وبذلك تبرأ من حلفهم كما تبرأ من قبله عبادة بن الصامت «وهو من بني عوف من الخزرج» من بني قينقاع حين حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما أحاديث اشتراك اليهود الفعلي مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حروبه فهي ضعيفة، وهي التي استند إليها من قال بأن اليهود شاركوا المسلمين في حروبهم وكان يسهم لهم في الغنائم معهم:
ذكر ابوعبيد بسنده عن الزهري قال: «كان اليهود يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسهم لهم»، وهو حديث مرسل لا يحتج به.
وعند الترمذي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه». قال الترمذي: حديث حسن غريب، والحديث عن طريق الزهري مرسلا فلا يحتج به، وعند الزيلعي في «نصب الراية»: «ان النبي كان يغزو باليهود» وهو من مراسيل الزهري، فلا يحتج به.
وفي «سنن البيهقي» حديث «ان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غزا بناس من اليهود».
قال البيهقي: هذا منقطع وهو من مراسيل الزهري أيضا.
وأورد الواقدي ـ وهو متروك ـ في كتاب المغازي، وعنه البيهقي في سننه، وقال: هذا منقطع واسناده ضعيف، والزيلعي «في نصب الراية» حديث:«خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعشرة من يهود المدينة غزا بهم خيبر».
واخرج الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» بسنده حديث: «ان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاتل معه قوم من اليهود في بعض حروبه فاسهم لهم مع المسلمين».
وفيه: عن يزيد بن يزيد بن جابر عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، ويزيد هذا لم يلق ابا هريرة، فقد ولد يزيد في حدود سنة 77 هـ في حين توفى ابو هريرة سنة 57 هـ، فالاسناد ضعيف سقط منه بعض الرواة.
وفي «سنن البيهقي» حديث: «استعان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيهود قينقاع».
وفيه الحسن بن عمارة، ذكر البيهقي انه متروك، ورغم ان الحسن بن عمارة غير متفق على تضعيفه لكن اكثر جهابذة المحدثين يضعفونه حتى حكى السهيلي اجماعهم على ذلك.
مواقف اليهود العدائية المتكررة واخراجهم من المدينة
لم يلتزم اليهود بالمعاهدة التي ابرمها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ معهم بل سرعان ما نقضوها ولم يكتفوا بعدم الوفاء بالتزاماتهم التي حددتها بل وقفوا مواقف عدائية ايضا فكان ذلك سبب اجلائهم عن المدينة.
اجلاء بني قينقاع عن المدينة
وقع ذلك بعد غزوة بدر الكبرى، اذ أظهر يهود نبي قينقاع الغضب والغيظ عقب انتصار المسلمين على مشركي مكة يوم بدر، وقد بلغ بهم الامر ان جاهروا بالعداء للمسلمين ما يعني الاخلال بالأمن والسلام داخل المدينة، ما ينافي الغرض من المعاهدة التي عقدوها مع المسلمين.
ومما اظهروه من العداء قولهم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا محمد لا يغرك من نفسك انك قتلت نفرا في قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال انك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وانك لم تلق مثلنا.
وفي كتب السيرة ايضا ان امرأة مسلمة قصدت سوق بني قينقاع فعقد احد اليهود طرف ثوبها فلما قامت انكشفت عورتها فصاحت، فقام احد المسلمين فقتل ذلك اليهودي، فتواثب باقي اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليه، فوقع الشر بين المسلمين وبين بني قينقاع.
فخرج اليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجيشه فحصارهم حتى اشتد عليهم الحصار فنزلوا على حكمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانتهى الامر باجلائهم عن المدينة، فلحقوا باذرعات، وكان عدد مقاتليهم اربعمائة حاسر «بدون درع» وثلاثمائة دارع فلبثوا في اذرعات حتى هلك اكثرهم.
اجلاء بني النضير عن المدينة
ذهب اكثر اهل السيرة والمغازي ان ذلك وقع بعد غزوة احد، فقد اظهر بنو النضير العداوة للمسلمين من بعد غزوة بدر الكبرى، حيث قام كعب بن الاشرف من زعمائهم، وقد غاظه انتصار المسلمين ببدر فهجا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسعى لتحريض قريش عليه، وزار مكة يبكي قتلاها ببدر، ويدعوها إلى الاخذ بالثأر، ولما عاد للمدينة شبب بنساء المسلمين فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتله، فاحتلا عليه محمد بن مسلمة الانصاري بخدعة انتهت بقتله جزاء ما اقترفه من نكث للعهد واستعداء لقريش على المسلمين «ولكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يؤاخذ بني النضير بجريرة كعب ابن الاشرف واكتفى بقتله جزاء غدره» وقد اشتكت اليهود مقتله فبين لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما صدر منه من عداء وهجاء، وجدد المعاهدة معهم، ولكنهم مضوا يكيدون للاسلام رغم تجديدهم المعاهدة، فحاولوا قتل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ غدرا، فنجاه الله تعالى من كيدهم، فأنذرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشرة ايام فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فاعلنوا تمردهم فحاصرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى نزلوا على الجلاء، على ان لهم ما اقلت الابل الا السلاح فخربوا بيوتهم بايديهم، وحملوا ما امكنهم من المتاع والاموال، وتركوا سلاحهم للمسلمين، وتوجه معظمهم إلى الشام، وذهب زعماؤهم إلى خيبر فنزلوا فيها.
وقد أدى اجلاء بني النضير إلى كسر شوكة اليهود في المدينة، وجددت بنو قريظة المعاهدة مع المسلمين، واظهرت رغبتها في المحافظة على العهد حتى كانت غزوة الاحزاب.
كما انتفع المسلمون بأراضي بني النضير«بإقطاعها للمهاجرين الذين كانوا يعتمدون في سكانهم على أراضي وبيوت الانصار».
غزوة الخندق وحصار الاحزاب للمسلمين في المدينة
وقعت غزوة الخندق «الاحزاب» سنة 5 هـ، وفي هذه الغزوة سعت قريش الى اتخاذ حلفاء لها يشاركونها في قتال المسلمين ومهد لهم هذ الامر يهود بني النضير، فعندما الا الرسول صلى الله عليه وسلم يهدو بن النضير من المدينة بعد غزوة احد، واقام عدد من زعمائهم في خيبر، بدأوا في الاتصال بقريش والقبائل الاخرى لجمعهم على قتال المسلمين وغزو المدينة فخرج وفد منهم: سلام بن ابي الحقيق النضري وحيي بن اخطب النضري الى مكة، لحث قريش على حرب المسلمين، ثم توجهوا الى قبيلة غطفان في نجد لنفس الغرض، فاستطاعت قريش ان تجمع العديد من القبائل ومعظمها فروع من غطفان لقتال المسلمين.
فلما علم المسلمون بخبر تجمع الاحزاب لغزوهم، استشار الرسول صلى الله عليه وسلم اصحابه، فاشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر خندق في المنطقة الشمالية من المدينة، ويربط بين طرفي حرة واقم وحرة الوبرة، وهي المنطقة الوحيدة المكشوفة امام الغزاة، اما الجهات الاخرى، فكانت كالحصن تتشابك فيها الابنية واشجار النخيل، وتحيطها الحرات التي يصعب على الإبل والمشاة السير فيها، فيكون الخندق بذلك حاجزا يمنع الالتحام المباشر بين الغزاة بجموعهم الكبيرة وبين المسلمين، ويمنع اقتحام المدينة، ويجعل المسلمين في موقع دفاعي جيد.
وشرع المسلمون بحفر الخندق وكان يمتد من أم الشيخين طرف بني حارثة شرقا حتى المذاد غربا، وكان طوله خمسة آلاف ذراع، وعرضه تسعة آلاف أذرع، وعمقه من سبعة أذرع الى عشرة وكان على كل عشرة من المسلمين حفر اربعين ذراعا وقد تولى المهاجرون الحفر من ناحية حصن راتج في الشرق الى حصن ذباب، والانصار من حصن باب الى جبل عبيد في الغرب، وقد تم الحفر بسرعة رغم الجو البارد وقلة الطعام، وشاركهم في الحفر الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، مما اثر على الروح المعنوية للمسلمين فتمكنوا من انجاز الخندق في ستة أيام فقط، وقبل وصول جموع الأحزاب إلى مشارف المدينة، «فلما انجز الخندق وضع الرسول صلى الله عليه وسلم النساء والأطفال في حصن فارع، وهو أقوى حصون المسلمين وهو لبني حارثة»، ورتب النبي صلى الله عليه وسلم جيشه، فاسند ظهرهم إلى جبل سلع داخل المدينة، ووجوههم إلى الخندق.
كان تفوق المشركين العددي كبيرا، فقد بلغوا عشرة الاف مقاتل، لقريش واحابيشها أربعة آلاف، ومعهم ثلاثمائة فرس وألف وخمسمائة بعير، ثم التحق بهم بنو سليم، وهم سبعمائة، ومن فزارة ألف رجل، ومن اشجع أربعمائة رجل، ومن بني مرة أربعمائة، وبقية العشرة آلاف مقاتل من بين اسد وبقية غطفان.
أما جيش المسلمين فكان ثلاثة آلاف مقاتل.
وقد اشتد الخطب على المسلمين عندما بلغهم ان حلفاءهم -يهود بني قريظة- قد نكثوا العهد وغدروا بهم، وكانت ديار بني قريظة في العوالي، في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزوز فكان موقعهم يمكنهم من ايقاع ضربة بالمسلمين من الخلف.
وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم من يستطلع موقف بني قريظة فوجدهم قد نقضوا عهدهم واظهروا العداوة للمسلمين بعد ان أقنع حيي بن اخطب النضري كعب بن اسد القرظي بنقض العهد، حيث بين له قوة الاحزاب وقدرتها على القضاء على المسلمين وتعهد بدخول الحصن معه ان رجع الاحزب عن المدينة فأعلنت قريظة نقض العهد وشاع الخبر بين المسلمين فخافوا على نسائهم واطفالهم من بني قريظة.
وقد وصف القرآن الكريم البلاء الذي اصاب المسلمين في الآية: «إذ جاؤكم من فوقكم ونم زسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زالزالا شديدا» «الاحزاب: 10-11» وقد نظم المسلمون دوريات لحراسة المدينة ويظهرون التكبير لاشعار بني قريظة بيقظتهم ووجودهم خوفا منهم على النساء والاطفال في الحصون.
وقد فوجئت جمع الاحزاب بالخندق ولم يستطيعوا اقتحامه فحاصروا المسلمين واشتد حصارهم ولم يكن بينهم قتال الا بالرمي بالنبال ورغم طول مدة الحصار فقد استشهد من المسلمين ثمانية.
وقتل من المشركين اربعة فكانت غزوة الخندق اقل الغزوات قتلى رغم كثرة اعداد المشركين فيها إذ لم يقع التحام مباشر بين الفريقين.
وكان طول الحصار سببا في اضعاف معنوية الاحزاب خاصة ان اهدافهم لم تكن واحدة فقريش تريد القضاء على المسلمين لتحرير طرق تجارتها وللانتصار لوثنيتها والاعراب يريدون نصرا سريعا لنهب المدينة ويهود مترددة بحيث لم تدخل القتال رغم نقضها للعهد خوفا من ترك الاحزاب للحصار فتقف عنذئد وحدها وجها لوجه امام المسلمين لذا طلب اليهود من الاحزاب تسليمهم رهائن منهم قبل الاشتراك في القتال معهم ثم نصر الله تعالى المسلمين بريح «الصبا» فهبت على جموع الاحزاب العواصف الشديدة الباردة فاقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم وأطفأت نيرانهم ودفنت رحالهم فرحلوا وانفك الحصار عن المدينة فتنفس المسلمون الصعداء، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا» «الاحزاب: 9» وقال تعالى: «ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا» «الاحزاب: 25».
قتل رجال بني قريظة وسبي النساء والذراري
اشتعل الحقد والغيظ في نفوس يهود بني النضير بعد اجلائهم عن المدينة، فحرض زعماؤهم المشركين من قريش والاحزاب على غزو المدينة، فكانت غزوة الخندق في سنة 5 هـ، واشتد الخطب بالمسلمين كما ذكرنا، خاصة مع اشتداد حصار الاحزاب للمدينة فقد كان في حصار المدينة عشرة آلاف مقاتل من قريش والاحزاب.
وخلال هذا الحصار الشديد نقضت قريظة عهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وجهرت بذلك، بتحريض من حيي بن أخطب النضري، وشعر المسلمون بالخطر الكبير الذي يتهددهم نتيجة غدر بني قريظة وتواطئهم مع الاحزاب بما يعرض المسلمين لخطر مداهمة الاحزاب للمدينة واقتحامها بمعاونة هؤلاء اليهود من جهتهم.
فلما هزم الله تعالى بالريح جموع الاحزاب، فتراجعوا وتشتت شملهم، امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقتال بني قريظة، فتوجه اليهم صلى الله عليه وسلم مع اصحابه، فحاصروهم ، وشددوا عليهم الحصار حتى استسلموا، وقبلوا النزول على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، لانهم كانوا حلفاء قومه من الأوس فحكم فيهم سعد رضي الله عنه بقتل مقاتلتهم وسبي النساء والذرية، وان تقسم اموالهم، فنفذ القتل فيهم، وقسمت اموالهم وسبيت نساؤهم وذراريهم.
وكان جزاء بني قريظة من جنس عملهم، حين عرضوا بخيانتهم ارواح المسلمين للقتال، واموالهم للنهب، ونساءهم وذراريهم للسبي، فكان ان عوقبوا بذلك جزاء وفاقا.
زيد بن سعنة
ويقال زيد بن سعية، والنون اكثر في هذا.
كان من احبار اليهود اسلم وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة.
كان من اكثر اليهود مالا وحسن إسلامه توفي في غزوة تبوك مقبلا الى المدينة روى عنه عبدالله بن سلام وكان عبدالله بن سلام يقول: قال زيد بن سعنة، «ما من علامات النبوة شيء الا وقد عرفته في وجه محمد صلى الله عليه وسلم».
وروى ابن الاثير عن ابن سلام عن زيد بن سعنة قال : «لم يبق من علامات النبوة شيء الا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت اليه الا اثنين لم أخبرهما منه، يسبق حلمه غضبه، ولا يزيده شدة الجهل عليه الا حلما فكنت اتلطف له لان اخالطه واعرف حلمه وجهله، قال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الايام من الحجرات ومعه علي بن أبي طالب، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي فقال: يارسول الله ان قرية بني فلان قد اسلموا وقد اصابتهم سنة وشدة، فان رأيت ان ترسل اليهم بشيء تعينهم فعلت، فلم يكن معه شيء، قال زيد: فدنوت منه فقلت: يا محمد، ان رأيت ان تبيعني تمرا معلوما من حائط بني فلان الى اجل كذا وكذا فقال: لا يا أخا يهود، ولكن ابيعك تمرا معلوما الى اجل كذا وكذا، ولا أسمى حائط بني فلان فقلت: نعم فبايعني وأعطيته ثمانين دينارا، فأعطاه الرجل قال زيد: فلما كان قبل محل الاجل بيومين او ثلاثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الانصار، ومعه ابو بكر، وعمر، وعثمان، ونفر من اصحابه، فلما صلى على الجنازة اتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت اليه بوجه غليظ ثم قلت، الا تقضي يا محمد حقي؟ فو الله- ما علمتكم يابني عبدالمطلب- لسيئي القضاء مطل.
قال: فنطرت الى عمر وعيناه تدوران في وجهه، ثم قال: اي عدو الله اتقول لرسول الله ما اسمع فوالذي بعثه بالحق لو لا ما احاذر فوته لضربت بسيفي رأسك ورسول الله ينظر الى عمر في سكون وتبسم ثم قال: يا عمر انا وهو الى غير هذا منك احوج ان تأمره بحسن الاقتضاء، وتأمرني بحسن القضاء، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعا مكان ما روعته قال زيد: فذهب بي عمر فقضاني وزادني فأسلمت.
وقد ذكره البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن محمد بن محمد بن حمزة ابن يوسف بن عبدالله بن سلام عن ابيه عن جده وفيه زيادة لعبدالله بن سلام قال فيها قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعا من تمر.
فقلت ما هذه الزيادة يا عمر فقال امرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ازيدك مكان ما رعتك فقلت: اتعرفني يا عمر قال: لا ، فمن انت؟ قلت انا زيد بن سعنة، قال الحبر قلت: الحبر قال : فما دعاك الى ان فعلت برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت وقلت له ما قلت: قلت: يا عمر انه لم يكن من علامات النبوة شيء الا وقد عرفته في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت اليه الا اثنتين لم اخبرهما منه، يسبق حلمه جهله ولا تزيده شدة الجهل عليه الا حلما، فقد خبرتهما فأشهدك ياعمر اني قد رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، واشهدك ان شطر مالي فإني أكثرهم مالا صدقة على أمة محمد.
فرجع عمر وزيد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيد: اشهد ان لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وآمن به وصدقه وتابعه وشهد معه مشاهد كثيرة، وتوفى في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر.
ميمون بن يامين
ميمون بن يامين وكان رأس اليهود بالمدينة فأسلم.
روى سعيد بن جبير قال: جاء ميمون بن يامين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان رأس اليهود بالمدينة فأسلم وقال: يارسول الله اجعل بينك وبينهم حكما فإنهم سيرضون بي، فبعث اليهم رسول الله فحضروا وادخله بيتا وقال: اجعلوا بيني وبينكم حكما فقالوا: رضينا بميمون بن يامين فأخرجه اليهم فقال لهم: أشهد أنه على الحق وأنه رسول الله، فأبوا أن يصدقوا فأنزل الله عز وجل«قل أرأيتم إن كان من عندالله وكفرتم به وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله»«الاحقاف:10».
وروى أبو سعيد في«شرف المصطفى» من طريق سعيد بن جبير: جاء ميمون بن يامين -وكان رأس اليهود- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله ابعث اليهم فاجعلني حكما فإنهم يرجعون إليّ فأدخله داخلا ثم ارسل اليهم فأتوه فخاطبوه، فقالوا: اختاروا رجلا يكون حكما بيني وبينكم قالوا: قد رضينا ميمون بن يامين، فقال: اخرج اليهم فقال: أشهد أنه رسول الله فأبوا أن يصدقوه.
سلام ابن أخت عبدالله بن سلام وسلمة بن سلام
سلام ابن أخت عبدالله بن سلام وسلمة بن سلام، هو ابن اخي عبدالله بن سلام، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية «يأيها الذين آمنوا ءامنوا بالله ورسوله» النساء: 136 في عبدالله بن سلام، وأسد وأسيد ابني كعب، وثعلبة بن قيس، وسلام ابن أخت عبدالله بن سلام، وسلمة بن أخيه، ويامن بن يامن، وهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب.
عن ابن الاثير أخرجه ابن منده، وابو نعيم كذا سلمة بن سلام بن أخي عبدالله بن سلام، ولا شك قد سقط عليهما اسم أبيه، وإلا فيكون أخا عبدالله، والصحيح أنه أخوه لا ابن أخيه، والله أعلم.
ثعلبة وأسيد وأسد القرظي
لما غدر بنو قريظة بالمسلمين في غزوة الخندق وانضموا للمشركين وانهت الغزوة برحيل المشركين عن المدينة حاصر المسلمون بني قريظة حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه قبل موته فحكم بقتل الرجال وسبي النساء والذراري وتقسيم اموالهم وفي ليلة نزول بني قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الله تعالى ثلاثة من اليهود فأسلموا ولم يكونوا من بني قريظة انما هم من بني هدل وهم: ثعلبة بن سعية واسيد بن سعية واسد بن عبيد.
قال ابن الاثير في ثعلبة بن سعية: وقيل ابن يامين.
قال ابن عبدالبر في«الاستيعاب»: أسيد بن سعية ويقال: أسد- بالفتح- بن سعية بن عريض القرظي قال ابراهيم بن سعد عن ابن اسحاق: أسد- بالضم- وقال يونس بن بكير: أسيد- بالفتح- وقال الدراقطني: الفتح الصواب.
وقد قيل سعية وسعنة وسعية بالياء أكثر. نزل هو وأخوه ثعلبة بن سعية في الليلة التي في صبيحتها نزل بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ ونزل معهما اسيد بن عبيد القرظي واحرزوا دماءهم واموالهم، اهـ.
وقال ابن عبدالبر في موضح آخر من«الاستيعاب»: أسيد بن سعية القرظي من بني قريظة اسلم فأحرز ماله وحسن اسلامه وساق بسنده عن ابن عباس قال: لما اسلم عبدالله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسيد بن عبيد ومن اسلم من يهود فأمنوا وصدقوا ورغبوا في الاسلام قالت احبار يهود ما أتى محمدا إلا شرارنا فأنزل الله عز وجل:«ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة» إلى قوله تعالى:«من الصالحين» «آل عمران:113- 114» هكذا رواه يونس بن بكير عن اسحاق وأسيد بفتح الهمزة وكسر السين وكذلك قال الواقدي: أسيد بن سعية بالفتح اسيد بن سعية بالفتح وكسر السين وفي رواية ابراهيم بن سعد عن ابن اسحاق: أسيد بالفتح والضم عندهم اصح والله اعلم.
وذكر الطبري عن ابن حميد عن سلمة عن ابن اسحاق قال ثم ان ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسيد بن عبيد وهم من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم اسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري:«توفي أسيد بن سعية وثعلبة بن سعية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم» روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما اسلم عبدالله بن سلام وثعلبة بن أسيد وأسد بن عبيد ومن اسلم من يهود فآمنوا وصدقوا ورغبوا فيه قال احبار يهود وأهل الكفر: ما آمن بمحمد ولا اتبعه إلا شرارنا فأنزل الله تعالى:«ليسوا سواء من اهل الكتاب أمة قائمة» «آل عمران:113».
قال ابن الاثير: ومن يسمعه يظن انهما قد اسلما هما وعبدالله بن سلام في وقت واحد وليس كذلك.
فأما ابن سلام فأسلم قديما وأسلم الباقون يوم قريظة كما مر.
روى البيهقي في«دلائل النبوة» بسنده عن شيخ من بني قريظة قال لعاصم ابن عمر بن قتادة: هل تدري عما كان اسلام اسيد وثعلبة ابني سعية واسد بن عبيد نفر من هدل لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير كانوا فوق ذلك؟ قلت: لا قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيبان فأقام عندنا والله ما رأينا رجلا قط يصلى الخمس خيرا منه فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين فكنا اذا قحطنا وقل علينا المطر نقول: يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا فيقول: ولا والله حتى تقدموا امام مخرجكم صدقة نقول: كم؟ فيقول: صاعا من تمر أو مدين من شعير فنخرجه ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه فيستسقي فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمر الشعاب وقد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة فحضرته الوفاة واجتمعنا اليه فقال: يامعشر يهود ما ترونه اخرجني من ارض الخمر والخمير إلى ارض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت اعلم قال: انما اخرجني توقع خروج نبي قد أظل زمانه ؟فجئت البلاد ومهاجره فأتبعه فلا تسبقن إليه إذا خرج يامعشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن يخالفه فلا يمنعكم ذلك منه ثم مات فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة قال اولئك الثلاثة الفتية وكانوا شبانا احداثا: يامعشر يهود والله إنه للذي ذكر لكم ابن الهيبان فقالوا: ما هو به قالوا بلى والله انه لصفته ثم نزلوا فأسلموا وخلوا اموالهم واولادهم واهاليهم، قال ابن اسحاق: كانت اموالهم في الحصن مع المشركين فلما فتح رد ذلك عليهم.