الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن الاعتقاد الصحيح هو أساس صحة الإسلام، وشرط في صحة كل عمل وقبوله، قال - تعالى -: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الزمر: 65.
ونحن بحاجة للتعرف على عقيدتنا أكثر وأكثر؛ لكي نحفظ أعمالنا وتسلم من الضياع، لأن الأعمال الصالحة بنيانٌ أساسه التوحيد والعقيدة السليمة.
إن فساد العقيدة هو أكبر مصيبة حلت بالمسلمين اليوم؛ بسبب جهلهم وتخاذلهم وبعدهم عن دين الله القويم، وهو قضية القضايا التي يجب أن توضح للجميع، ولن يكون هناك إصلاح إلا عن طريق التوحيد الصحيح وتثبيت الأساسيات العقدية.
لذا فإن من واجب كل داعية ومربٍّ أن يؤسس القلوب على معرفة الله، والالتفات إليه، والتعلق به والتجرد عما سواه.
وقد يكون هناك تساؤل..ما السبب في طرح هذا الموضوع ونحن والحمد لله نقول لا إله إلا الله، ونحن مؤمنون موحدون؟ الجواب: أننا نستفيد من طرح هذا الموضوع فوائد كثيرة أهمها فائدتان مهمتان:
1- الفرح بفضل الله ورحمته، حيث امتن علينا بالتوحيد، ونجانا من مظاهر الشرك الأكبر، وهذه نعمة قد تزول إذا لم تُقيد بالعلم الصحيح: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (محمد: من الآية19) "فاعلم أنه لا إله إلا الله".
2- الخوف العظيم من الوقوع في الشرك خصوصاً إذا عرفنا أن الإنسان قد يكفر بكلمة يخرجها وهو لا يشعر يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ(التوبة: 74)، وكذلك الذين قال الله - تعالى -فيهم: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (التوبة: 66).فهؤلاء الذين صرح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزاح، فكيف يستبعد أن يكفر إنسان بعد أن شهد أن لا إله إلا الله وصلى وصام؟ والقرآن الكريم حكم بكفر أناس بعد إيمانهم.
فإذا عرفنا ذلك عظم خوفنا من الوقوع فيما وقع فيه أولئك وأمثالهم، وحرصنا على ما يخلِّصنا منه، وذلك بطلب العلم النافع. والمرء مهما بلغ من العلم إلا أنه محتاج إلى معرفة التوحيد، ومعرفة ما يضاده ليتحرز منه، فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به وبما يخلصه منه. والنبي إبراهيم - عليه السلام - خاف الشرك على نفسه وذريته فقال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (إبراهيم: 35) فكيف نأمنه على أنفسنا؟ قال أحد السلف: "من يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ ".
أهم المفاهيم العقدية التي تحتاج إلى توضيح وتصحيح:
مفهوم كلمة "لا إله إلا الله" هي أصل العقيدة ورأس الإسلام مطلقاً. بها بعث الله الرسل جميعاً لأجلها ولأجل تحقيقها خلق الله الخلق جميعاً، وعنها يُسأل الأولون والآخرون؛ فلا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون، وماذا أجبتم المرسلين.
وقال ابن رجب: "لا إله إلا الله" لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا، وهي أول واجب في الإسلام وآخر ما يخرج به العبد من الدنيا فهي أول واجب وآخر واجب، وقد يكون هذا هو وجه افتتاح المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يومه بالتوحيد، حيث يقرأ في ركعتي الفجر بسورتي "الإخلاص" و"الكافرون"، ويختم يومه بالتوحيد حيث كان يقرأ في ركعتي الشفع والوتر بسورتي "الإخلاص" و"الكافرون".
فضل هذه الكلمة:
إن هذه الكلمة لها من الله مكان، من قالها صادقاً أدخله الله الجنة. قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"، ومن قالها كاذباً حقنت دمه وأحرزت ماله وحسابه على الله - عز وجل -.
ولهذه الكلمة فضائل كثيرة ومن هذه الفضائل باختصار:
1- أنها سبب لمغفرة الذنوب وتكفيرها.
2- أن أهلها إن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقها فإنهم لابد أن يخرجوا منها.
3- هي من الأعمال المضاعفة تعدل عتق الرقاب وتكون حرز من الشيطان.
4- هي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم، ومفتاح دار السلام.
5- هي الكلمة التي تخرق الحجب حتى تصل إلى الله، وهي أفضل ما قاله النبيون.
معنى هذه الكلمة ومقتضاها:
معنى"لا إله إلا الله": لا معبود بحق إلا إله واحد هو الله، فهذه الكلمة العظيمة نفت استحقاق الألوهية لغير الله وإثبات أحقيتها لله وحده، ومعناها: إفراد الله بالعبادة مع التسليم والانقياد والتجرد له - سبحانه -.
وعبادة الله لا تصح مع إشراك غيره معه، ولو كان هذا الإشراك يسيراَ ففي الحديث القدسي: "من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه".
قال الإمام ابن رجب: وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد: لا إله إلا الله، تقتضي أن لا إله غير الله، والإله هو الذي يطاع فلا يعصى؛ هيبة له وإجلالاً ومحبة وخوفاً ورجاء وتوكلاً عليه وسؤالاً منه ودعاء له ولا يصح ذلك كله إلا لله - عز وجل -.
ولهذا لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لكفار قريش: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (ص: 5).
ففهموا أن هذه الكلمة أنها تبطل عبادة الأوثان وتحصر التعلق والعبادة لله وحده، وأنهم لو قالوها واستمروا على عبادة الأصنام لتناقضوا مع أنفسهم، فكانوا أعلم بمقتضى هذه الكلمة من مشركي عصرنا عباد القبور والأضرحة؛ فهم يقولون لا إله إلا الله ثم ينقضونها بعبادة الأموات والتقرب إلى الأضرحة بأنواع العبادات من الذبائح والنذور والطواف والتبرك بتربتهم.
ومن مقتضياتها: الموالاة لله بعبادته وحده، والموالاة في الله بمحبة أهل طاعته وتوحيده والبراءة من كل معبود سواه، والمعاداة في الله بحيث يبغض أهل الكفر والفسوق والعصيان ويعاديهم، فإنه لا ولاء إلا ببراء، ولا ولاء لله إلا بالبراءة من كل معبود سواه.
ومن مقتضياتها: اعتقاد أن حق التشريع لله وحده دون ما سواه؛ فلا يصح لأحد أن يصنع لنفسه ولا للناس نظاماً وتشريعاً في أمر عبادتهم أو معاملاتهم فيما بينهم على مستوى الأفراد والجماعات، وليس لأحد الحق أن يحلل أو يحرِّم من تلقاء نفسه. ومن فعل ذلك فقد نصب نفسه إلهاً من دون الله ومن أطاعه فقد اتخذه إلها من دون الله قال - تعالى -: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (التوبة: 31). لأنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا لهم الحلال فأطاعوهم.
وعلى هذا فلا يمكن تحقيق هذه الكلمة قولاً وعملاً إلا باستجماع شروطها وانتفاء موانعها فقد يتخلف العبد عن مقتضاها لفوات شرط من شروطها.
قيل للحسن: إن أناساً يقولون: من قال "لا إله إلا الله" دخل الجنة، فقال: من قال "لا إله إلا الله" فأدى حقها وفرضها دخل الجنة.
شروط لا إله إلا الله:
1- العلم بمعناها نفياً وإثباتاً؛ لأن ذلك وسيلة للعمل بمقتضاها، قال - تعالى -: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (الزخرف: 86).
2- اليقين: وهو كمال العلم الذي لا شك فيه ولا تردد.
3- القبول: فيقبل ما تقتضيه هذه الشهادة فلا يردها.
4- الانقياد بأداء حقوقها، وهي الأعمال الواجبة مخلصاً لله طالباً مرضاته.
5- الصدق: فيفعل ذلك كله وينقاد إليه بصدق، فيشترط ذلك الصدق المانع من النفاق.
6- الإخلاص المنافي للشرك، فيخلص عبادته لله، ولا يصرف شيئاً منها لغيره.
7- المحبة، بأن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل شيء، فلا يبقي في نفسه محبة لما حرم الله ولا كراهة لما أمر الله.
والحاصل أن من قال هذه الكلمة عارفاً لمعناها، عاملاً بمقتضاها ظاهراً وباطناً من نفي الشرك وإثبات العبادة لله، مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته والعمل به، فهو المسلم حقاً.
ومن قالها وعمل بها ظاهراً من غير اعتقاد لما دلت عليه فهو منافق.
ومن قالها بلسانه وعمل بخلافها من الشرك المنافي لها فهو كافر.
متى ينفع الإنسان قول "لا إله إلا الله"؟
هناك نصوص قد يُتوهم منها أن مجرد التلفظ بها يكفي، وقد تعلق بهذا الوهم بعض الناس فاقتضى الأمر إيضاح ذلك؛ لإزالة هذا الوهم عمن يريد الحق. فمن هذه الأحاديث: قول معاذ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار". وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فإن الله حرم على النار ممن قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله".
وأحسن ما قيل في توضيح هذا الإشكال ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - اذكره بتصرف - "إن هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة، قالها خالصة من قلبه، مستيقناً بها قلبه، غير شاك فيها، بصدق ويقين، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب على الله - تعالى - بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً، وتواتر الأحاديث بأنه يحرم على النار من قال: "لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله"، ولكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يُخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها... الخ".
وقبل أن نختم هذا الموضوع يبقى أن نوضح أمراً مهماً، وهو أن الذنوب والسيئات تقدح في صحة "لا إله إلا الله" وتوهنها؛ فيحيا العبد على ذلك ويموت على ذلك.
قال ابن تيمية في توضيح هذه المسألة:
إنما يُخاف على المخلص أن يأتي بسيئة راجحة، فيضعف إيمانه فلا يقولها بإخلاص ويقين؛ لأن السيئات تُضعف الإيمان وتوهن اليقين؛ فيضعف قول "لا إله إلا الله" فيمتنع الإخلاص عن القلب فيصير المتكلم بها كالهاذي أو كمن يحسن صوته بالآية من القرآن من غير تدبر ولا تأثر، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقض ذلك، فإن كثرت الذنوب قسا القلب وثقل على اللسان قولها، وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن، واستحلى مخالطة أهل الغفلة وكره مخالطة أهل الحق. فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه وبفيه ما لا يصدق عمله.
قال الحسن: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فمن قال خيراً وعمل خيراً قُبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه".
قال بكر بن عبد الله المزني: "ما سبقكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه".
من قال "لا إله إلا الله" ولم يقم بموجبها، بل اكتسب مع ذلك ذنوباً فأضعفت صدقه ويقينه ورجحت سيئاته على حسناته، ومات مصراً على ذلك؛ فإنه يستوجب النار ولو كان يقول "لا إله إلا الله" فإن شاء الله رحمه وغفر له، وإن شاء عذبه وأدخله النار بموجب سيئاته ولكنه لا يخلد فيها.
وفي هذا القدر الذي نقلناه من كلام أهل العلم كفاية في إيضاح هذه القضية التي هي أم القضايا على الإطلاق، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.